تفسير إبن كثير :
القول في تفسير قوله تعالي: سورة: الْفِيل الآية:5
» تفسير إبن كثير
وقوله : ( فجعلهم كعصف مأكول ) قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة : هبورا . وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة . وعنه أيضا : العصف : التبن . والمأكول : القصيل يجز للدواب . وكذلك قال الحسن البصري .وعن ابن عباس : العصف : القشرة التي على الحبة ، كالغلاف على الحنطة .وقال ابن زيد : العصف : ورق الزرع ، وورق البقل ، إذا أكلته البهائم فراثته ، فصار درينا .والمعنى : أن الله ، سبحانه وتعالى ، أهلكهم ودمرهم ، وردهم بكيدهم وغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأهلك عامتهم ، ولم يرجع منهم بخير إلا وهو جريح ، كما جرى لملكهم أبرهة ، فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بها جرى لهم ، ثم مات . فملك بعده ابنه يكسوم ، ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة ، ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستغاثه على الحبشة ، فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه ، فرد الله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك ، وجاءته وفود العرب للتهنئة .وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين ، يستطعمان ورواه الواقدي عن عائشة مثله . ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس ، عند إساف ونائلة ، حيث يذبح المشركون ذبائحهم .قلت : كان اسم قائد الفيل : أنيسا .وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب " دلائل النبوة " من طريق ابن وهب ، عن ابن لهيعة ، عن عقيل بن خالد ، عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن ، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له : شمر بن مفصود ، وكان الجيش عشرين ألفا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى .وهذا السياق غريب جدا ، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره . والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار . وهكذا روى ابن لهيعة ، عن الأسود ، عن عروة : أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ، ولعل ابن مفصود كان على مقدمة الجيش ، والله أعلم .ثم ذكر ابن إسحاق شيئا من أشعار العرب ، فيما كان من قصة أصحاب الفيل ، فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعري :تنكلوا عن بطن مكة إنها كانت قديما لا يرام حريمهالم تخلق الشعرى ليالي حرمت إذ لا عزيز من الأنام يرومهاسائل أمير الجيش عنها ما رأى ؟ فلسوف ينبي الجاهلين عليمهاستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم بل لم يعش بعد الإياب سقيمهاكانت بها عاد وجرهم قبلهم والله من فوق العباد يقيمهاوقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري المري :ومن صنعه يوم فيل الحبو ش ، إذ كل ما بعثوه رزممحاجنهم تحت أقرابه وقد شرموا أنفه فانخرموقد جعلوا سوطه مغولا إذا يمموه قفاه كليمفسول أدبر أدراجه وقد باء بالظلم من كان ثمفأرسل من فوقهم حاصبا يلفهم مثل لف القزمتحث على الصبر أحبارهم وقد ثأجوا كثؤاج الغنموقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة :إن آيات ربنا باقيات ما يماري فيهن إلا الكفورخلق الليل والنهار فكل مستبين حسابه ، مقدورثم يجلو النهار رب رحيم بمهاة شعاعها منشورحبس الفيل بالمغمس حتى صار يحبو ، كأنه معقورلازما حلقه الجران كما قطر من ظهر كبكب محدورحوله من ملوك كندة أبطال ملاويث في الحروب صقورخلفوه ثم ابذعروا جميعا كلهم عظم ساقه مكسوركل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بوروقد قدمنا في تفسير " سورة الفتح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش ، بركت ناقته ، فزجروها فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي : حرنت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل " ثم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله ، إلا أجبتهم إليها " . ثم زجرها فقامت . والحديث من أفراد البخاري .وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " . آخر تفسير سورة " الفيل " .